أعترف بأني تلقيت خبر إطلاق حملة "وطن نظيف" بفرحة غامرة. فأحوال النظافة في شوارعنا وأحيائنا وصلت من السوء درجة أصبحت لا تؤذي جوارحنا فقط بل تهدد الصحة العامة وتنذر بانتشار الأمراض والأوبئة. لذا سعدت عندما علمت بهذه الحملة وبتبني رئيس الجمهورية نفسه لها وبإدماجها ضمن خطته للمائة يوم الأولى من حكمه.
وكنت قد كتبت في هذا المكان من سنة بالضبط منتقداً الإسلاميين على ولعهم بسؤال الهوية واهتمامهم بأشياء مثل المادة الثانية وإطلاق اللحى بينما الناس تعاني من مشاكل حياتية متراكمة ومعقدة. وكنت قد عقدت مقارنة مع إسلاميي تركيا الذين لم يلعبوا على وتر الهوية الرنان بل تصدوا لمشاكل مثل انقطاع المياة ولم الزبالة. وتساءلت يومها عما إذا كان إسلاميونا سيتعلمون من تركيا.
أما ثالث أسباب سعادتي بهذه الحملة فهو أنني، ومنذ ما يزيد على عشر سنوات، مشغول بتاريخ الزبالة في مصر، وأتردد على دار الوثائق القومية لدراسة تاريخ الصحة العامة في القرن التاسع عشر. وبعد طول بحث وصلت لنتيجة مؤداها أن الإنجاز الذي شهدته البلاد في مجال الطب والصحة العامة يفوق في أهميته كل إنجازات محمد علي المزعومة من توسع حربي وافتتاح مدارس و بناء مصانع. كما وقفت على العديد من الوثائق التي توضح العناية التي أولاها المسؤولون المصريون لموضوع الصحة العامة وتحديداً لم زبالة القاهرة والتعامل مع مخلفاتها الصلبة.
ومن أهم الوثائق التي عثرت عليها في هذا الموضوع، بل أظن أنها من أهم وأطرف وأشيق الوثائق التي عثرت عليها طوال عشرين سنة قضيتها في دار الوثائق القومية، وثيقة تعود لعام 1874 صادرة من "ديوان تفتيش صحة المحروسة" ومرفوعة للـ"أعتاب الخديوية" تتناول كيفية الارتقاء بمستوى الصحة العامة بالعاصمة. ومن أهم ما في هذه الوثيقة الطويلة إقتراح مقدم لرأس الدولة عما هو ضروري لنقل المخلفات الصلبة، آدمية وحيوانية، خارج المدينة. الاقتراح مبني على تقدير لما يخلفه كل إنسان (وحيوان) من مخلفات يومياً، وعدد العربات الضرورية لنقل هذه الأطنان. وتتطرق الوثيقة أيضاً لبيان مواصفات العربات، والطرق الواجب السير فيها دون سواها، وأماكن التخلص من هذه النفايات، وطرق معالجتها.
سبب شعفي بهذه الوثيقة هو أنها توضح كيف ارتقت الإدارة المصرية في القرن التاسع عشر عندما اهتمت بما يهم الناس حقا. والسبب الثاني لاهتمامي بهذه الوثيقة هو ما تعبر عنه من تفكير علمي، واعتزاز بما تحقق من إنجازات، وثقة في قدرة الجهاز الإداري للدولة لعلاج مشاكل المجتمع الحياتية. في نظري، هي دي مصر يا عبلة مش الأهرامات والسبعة آلاف سنة حضارة.
ولذلك وبالرغم من حماسي المبدئي لحملة "وطن نظيف" للرئيس مرسي فقد خاب رجائي عندما وقفت على تفاصيل تلك الحملة. أنا لا أتوقع من الرئيس أن يكون قد درس تاريخ الصحة العامة في مصر في القرن التاسع عشر، ولكني أتوقع منه أن تعبر قراراته عن إدراكه أنه رئيس دولة ومسؤول عن جهاز إداري ضخم، قد تشوبه الكثير من العيوب، ولكنه قائم بالفعل ولا يجب تجاهله والتصرف بأن مصر لا توجد بها مؤسسات وكأنك يا بوزيد ما غزيت.
ثم أن لا الرئيس ولامستشاروه توقفوا لحظة ليقولوا لنا، بعد أن نلبي دعوتهم وننزل لكنس الشوارع، ماذا نفعل بما كنسناه؟ ولا طرحوا أسئلة من قبيل: ما هي السياسة الأمثل لتدوير الزبالة في مدن مصر؟ وهل كان الاعتماد على شركات أجنبية للم الزبالة قراراً صائباً؟ وما هو الدور الأمثل للمحليات في التصدي لهذه المشكلة العويصة؟
عوضاً عن كل هذا فضل الرئيس مرسي ومستشاروه من جماعة الإخوان التصدي لهذه المشكلة كمشكلة تتعلق بسلوكيات المواطنين وأخلاقهم، وقدموا حلاً أخلاقياً لمشكلة اجتماعية واقتصادية وسياسية. وبذا يبرهن الإخوان للمرة الألف تهافت منطقهم المبني على خلط الدين بالسياسة والمعتمد على إقحام الأخلاق في مسائل إدارية ولوجستية وسياسية.
[ نشر للمرة الاولى في "أخبار الادب" المصرية وتعيد جدلية نشره بالاتفاق مع الكاتب.]